vendredi, août 19, 2022

Ipsi Montfleury


بقلم نبيل الشاهد

معهد الصحافة، أو كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه

:

في باكالوريا 97 ، قبِل معهد الصحافة 67 ناجحا فقط للسنة الأولى عندما كان المعهد في مونفلوري و يتم القبول فيه بناءً على معدّلات متميزة في المواد الأدبية الأساسية...لكن لسوء الحظ عامئذ كان امتحان الأنقليزية الشهير الذي دمّر الآلاف في الدورة الأولى و ربما كانت آخر دورة تقبل ذلك العدد المحدود من الناحجين.

بعدها بسنتين نُقل المعهد إلى منوبة، و قُبل أكثر من ألف ناجح في الباكلوريا، أولا بسبب توسعة المعهد و ثانيا بسبب نسبة نجاح كبيرة لما تم تفسيره وقتها بنسب نجاح قياسية في "باك الانتخابات" التي حدثت قبل التجديد لبن علي في دورة رئاسية جديدة.

المهم أن المعهد بدأ بعدها في قبول أعداد كبرى سنويا من الطلبة دون مراعاة خصوصية الصحافة كمهنة نوعية ولا حاجيات سوق الشغل لتبدأ بعدها بسنوات قليلة موجة عكسية نحو البطالة و البطالة المقنّعة و انهيار الميدان تدريجيا.

في بداية الألفية تم إقرار مشروع مراجعة نظام التعليم في المعهد و تم اقتراح إسمي مع زملاء آخرين بينهم نبيل المعلاوي و محمد ميلاد على ما أذكر  على رأس لجنة من الطلبة بتأطير من الدكتور جمال الزرن لتقديم مقترحاتنا. كان مقترحي الأساسي أن يتم إلغاء كل المواد التي لا تتعلق باختصاص الصحافة مثل التنمية المستديمة و الإحصاء و غيرها من عشرات المواد التي لا يحضرها الطلبة بل أنها ترهقهم و تثقل عليهم دون فائدة، في مقابل تكثيف العمل التطبيقي خاصة في اختصاص التلفزيون و الراديو و الصحافة الإلكترونية...و للمفارقة كنا ندرس الرّقن في الوقت الذي اجتاحت فيه الانترنات العالم!

عندما عدنا بعد العطلة السنوية، لم يحدث شيء من كل هذا، بل تواصل النزيف  لأسباب لا أعرفها...لكن من السهل تخمين من كان من مصلحته بقاء الوضع على ما هو عليه.

بعدها بسنوات تم تغيير نظام التعليم إلى "أمد" و اختُصرت سنوات الدراسة إلى ثلاث، دون أن يرافقها تطوير للمنهج و إمكانيات المعهد...و تراكمت المشاكل.

بعد عشرين سنة من كل هذا، و بعد أن جرّبت الفصول الأربعة في هذه المهنة، ست سنوات بين أستاذية و ماجستير ، بعدها 8 سنوات من بطالة مريرة رأيت فيها ما يملأ مجلدات، و بعدها أنصفتني الأقدار لأعمل في مؤسسات إعلامية عربية و عالمية كبرى اكتشفت فيها مستوى آخر من العمل الصحفي بحقائقه الصادمة والمرعبة أحيانا، يمكنني أن أقول بكل ثقة أن معهد الصحافة الذي تحول إلى جزء من مشاكل المهنة، بإمكانه أن يتحول في سنوات قليلةإلى حل جذري لها عبر الحلول التالية؛

- لا توجد دولة في العالم تستقبل 1000 طالب شغل جديد سنويا في ميدان الصحافة، و الفرز الحقيقي يجب أن يبدأ قبل دخول المعهد، بداية من القدرة على الكتابة وصولا إلى امتحان الشاشة  screen test مرورا باختبار نفسي يتعلّق خاصة بالقدرة على العمل تحت الضغط (و أعني جيّدا ما أقول).

 - هل يعقل أن الطالب في معهد الصحافة ينهي سنوات التخرج دون أن ينجز تقريرا تلفزيا واحدا ثم يجد نفس في أول يوم عمل مطالبا بتقرير صالح للبث خلال ساعات قليلة؟

- هل يعقل أن يدرّس مادة التلفزيون من لم يدخل في حياته غرفة أخبار و لا يعرف كيف تبنى نشرة إخبارية و لا حتى موجز؟

- هل يعقل ألّا يتلقّى خرّيج معهد الصحافة دروس الإلقاء الصوتي voice delivery و لا ينظم ورشات مطوّلة لتطوير القدرات على الكتابة للصورة.

- هل عندنا الشجاعة الكافية للقول أن ميدان الصحافة يتطلب اختصاصات من خارج المعهد مثل الاقتصاد و القانون و الترجمة الفورية و غيرها و هي اختصاصات لا تخلو منها أيّ غرفة أخبار في العالم...السؤال هنا عن شهادة تكميلية في المعهد بعد الأستاذية في اختصاصات أخرى أو العكس.

- ما قيمة رسائل ختم الدروس التي يكون مآلها سلة المهملات أو  أدراج الأرشيف في أحسن الحالات بعد جهد مادي و معنوي كبير لا ينفع الصحفي في شيء ميدانيا...لماذا لا يكون الأمر اختياريا فقط للطلبة الذين ينوون مواصلة البحث الأكاديمي؟

- الشهادة من معهد الصحافة ليست تفويضا إلهيا لدخول المهنة، بل مجرّد مفتاح لباب يفتح على ساحة كبرى يختلط فيها كل شيء و يتقاطع فيها الصحفي و السياسي و الاجتماعي و الثقافي و غيرها.

- هل لدينا الشجاعة للاعتراف بأن طبيعة التكوين في معهد الصحافة ساهمت في انحدار مستوى الخرّيجين مع كثرة عددهم، و ضعف المستوى سهّل اقتحام الدخلاء للميدان، واقتحام الدخلاء عمّق أزمة الصحفيين...يعني أنها بالنهاية سياسة الباب الدوّار التي جعلتنا ندور في حلقة مفرغة دون أن نعرف طريق الخروج منها!

- عندما تعود الهيبة لشهادة معهد الصحافة و لطبيعة التكوين الأكاديمي و الميداني فيه، سوف تنحسر هذه الموجة من دكاكين التكوين  الصحفي، و موجات الدخلاء ممن فشلوا في مهنهم الأصلية، و سيتم الفرز الآلي بين الصحفي الحق والمتسلّق حتى عند الجمهور نفسه...و ستفكّر المؤسسات الإعلامية ألف مرة قبل انتداب صحفي غير مؤهل. 

لست هنا أحمّل المسؤولية كاملة للمعهد فيما يحدث اليوم، فهو حلقة من سلسة انتاج اعلامي طويلة، و لا أنتقص من قيمة الخرّيجين من المعهد فهم بالنهاية ضحايا لمنظومة بُنيت على أسس رخوة...لكن هذه بوّابة للبحث عن حل من أسفل السلّم...دون أن نضيع وقتنا في جدل عقيم بين صحفي و دخيل لم يزد القطاع إلا قطيعة و تنافرا وعداوات .

إبحثوا أيضا عن أسباب فشل هياكل المهنة وكل برامج التعديل الذاتي والدورات التدريبية التي تدرّ ذهبا منذ سنوات دون أن نرى شيئا على الأرض سوى صور في نزل فخمة من حين لآخر، و عن مواقع الكترونية لا أحد يعرف مصادر تمويلها توظّف العشرات من الصحفيين بميزانيات ضخمة، و عن اختراق القطاع من قبل السياسيين على مرأى من الجميع داخل هياكل المهنة، و تحوّل بعض الصحفيين إلى مرتزقة بالمعنى الحرفي للكلمة.


ملاحظة أخيرة: الدخلاء في قطاع الصحافة مثل قطاع التهريب، هنالك دائما من من مصلحته أن تبقى الأمور على ما هي عليه حتى تنتعش من غياب أي ضوابط و تعيش وفقا لمنطقها الخاص مثل مافيا التهريب من علاقات خاصة و استثراء و زبونية خارج أي منظومة قانونية أو مهنية.

الوضع أتعس مما تتصورون، لذلك اكتسحه من فشلوا في مهنهم الأصلية!

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire